القائمة الرئيسية

الصفحات

طيوف


عندما وقف أمام المرآة، لينظر إلى (طقم) أسنانه الجديد، في فمه. سمع زوجته تمازحه: "يجب أن نسلق لأسنانك هذه (جونة)، من الحنطة، ونوزّعها على الجيران، يا أبا زيدان. كما سلقنا لزيدان، حين ظهرت أسنانه اللبنية، قبل ثلاثين عاماً.. هيء". وضحكت.

لم يشارك أبو زيدان زوجته، في ضحكها. ظل صامتاً وحزيناً، وهو يحملق في أسنانه الاصطناعية، في المرآة. ثم لايدري، كيف دار رأسه؟ أو دارت به الأرض؟ صار ينظر دون رؤية. غام في مخيّلته، التي طفقت تزخّ عليه أطيافاً من شخوص غابرة. أقبل عليه أحدهم. كان ضخم الجثّة كالعتريس. يفتح شدقه، ليقرط مسامير حديدية، بأسنانه. لينال الرهان، أمام جمع من رجال القرية ونسائها.

وما إن رفع أبو زيدان يده إلى فمه، حتى ظهر له الطيف ممتطياً جواداً أشهب. وأخذ يصول ويجول، به في ميدان القرية، كأبي زيد الهلالي. وحين ترجّل عنه وسار. كان الحصى يفرقع تحت حذائه. ويتطاير منه الشرر، من شدّة مشيته القويّة الشمّاء. ثم يدّوي له تصفيق حاد. لفوزه، في حلبة السباق.

أراد أبو زيدان أن يفتح فاه. وينطق، ويكلّمه. ولكن ذاك الطيف، لم يمهله. إذ واصل تلك المشية، إلى الساحة العامّة. حيث كانت (العمدة) –العضادة- مرماة. تتحدّى من يرفعها بيد واحدة، إلى مافوق رأسه.

ويترجّع في أذني أبي زيدان صوت صاعق: "ارفعها ياجدعان".

ولكن جدعان هذا –وهو النديد الثاني في القرية- لم يستطع أن يرفعها إلا إلى موازاة كتفه. فانبرى لها صاحب الصوت. غَفَّ عليها كالباشق، الذي يغفّ على فريسته. ورفعها بنترة واحدة، إلى مافوق رأسه. وجال بها، دورة كاملة، أمام المتحلّقين. ثم رماها بعيداً. وتنفجر زغرودة مجلجلة من فم امرأة: "لو.. لو.. يش، لأبي زيدان"!

-"عشتِ، يا أم زيدان". حيا أبو زيدان زوجته.

تململت جثة أبي زيدان الماثلة، أمام المرآة، كالمومياء. يريد أن يرى على صفحة الزجاج الصامت شيئاً ما، بعينيه الكليلتين- أو بالأحرى- طقم أسنانه الجديد. ولكن تبقى المرآة عاتمة، ليفرّ له، من إحدى الزوايا طيف آخر. كسر طوق حلقة قائمة. وأتى يرفل، بقبائه الأبيض، المقلّم بالأخضر. وقد أمال عقال كوفيته زهواً. شقَّ الصفوف. ودخل مباراة لعبة شعبية تدعى (الحورا).

حرّك يده اليمنى، وهي ترفع عصا (الحورا)، إلى الأعلى؛ كأنه يقول: هل من مبارز "يا رجّالة"؟

ويشهق أبو زيدان، بلهفة، للطيف الذي مار، في خياله، يريد أن يراه، بعيني وجهه. بيد أنه حاول ذلك دون فائدة.

ظل غائراً، في غياهبه. ليلمح، في فيافيها السحيقة، ذاك الطيف، وهو يتوسّط حلقة أخرى، من حلقات أهل القرية. وقد كشف عن رأسه، هذه المرة، وَبَانَ شعره أسود، كالليل. مسترسلاً حتى الكتفين –هكذا كانت شعور الرجال، في قرية أبي زيدان، في ذياك الزمان- ربط به جاروشاً حجرياً. وجرّه، في الساحة. لتنهمر عليه، فيما بعد، عبارات التشجيع والإعجاب:

-"ماهذه الفرادة، يا أبا زيدان"؟!

-"عاش أبو زيدان، شيخ الشبان"!!

حقيقة. كان مذهلاً ذاك الجسم العظيم، مما جعل صاحبه، الذي مازال مسمّراً الآن، أمام المرآة، في مكانه. يزحر كثور تحت نير. وينفخ نفساً لاعجاً كاللهب. ثم يرفع يده إلى رأسه، ويتلمّس، بأنامله التي رقَّتْ، ونحلت، بقايا حاكورة الشعر الأشيب، وهو يطلق صراخه على زوجته: "يا أم زيدان، ناوليني عينيّ، لأمشي -/وكان يسمّي نظارته الطبية السميكة، مثل كعب كوب زجاجي. يسمّيها بعينيه/- بعد أن أسرجها على مارن أنفه. تأمّل (يقطينة) رأسه. ألاح طويلاً بها أمام المرآة. ثم همَّ، بأن يمشي. ولكنه فطن بوضعه:

-"ناوليني العصا، يا أم زيدان".

ثم تحرّك يدبّ على أرجله الثلاث!!
  • فيس بوك
  • بنترست
  • تويتر
  • واتس اب
  • لينكد ان
  • بريد
author-img
sinan

إظهار التعليقات
  • تعليق عادي
  • تعليق متطور
  • عن طريق المحرر بالاسفل يمكنك اضافة تعليق متطور كتعليق بصورة او فيديو يوتيوب او كود او اقتباس فقط قم بادخال الكود او النص للاقتباس او رابط صورة او فيديو يوتيوب ثم اضغط على الزر بالاسفل للتحويل قم بنسخ النتيجة واستخدمها للتعليق