القائمة الرئيسية

الصفحات

رجل في غرفة

الرجل لم يكن وحده، في غرفته. هو متأكّد، بكل حواسه وجوارحه. على العكس مما زعمه الجيران. كان فيها مشبعاً بالروح، والأنس، والحركة. وتتقافز عصافير البهجة، من بين شفتيه، وهو يتكلّم ويحدث هسيَس رشفِ قهوة. وطقطة أوانٍ: إبريق، ملاعق، فناجين،

(بابور غاز)...

لذا هو، متأكّد، مرة ثانية، أنه لم يكن وحده. ومستعد ليقارع كل من يتّهمُه، بأنه يهذي. أبداً. أبداً. لم تكن هذه الحال هلوسةٌ أصابته، في منتصف الليل، تحت ضغط شعور، شُحِنَ به، حتى درجةٍ عاليةٍ ، من التوتّر. أجّجت لديه الأخيلةَ والانفعالاتِ...

منذ أربع سنوات، وغرفته هذه –التي هي الآن موضعُ حركته، ومقرُ وحدته، وبيت ذكرياته –كانت صامتة. لاحركة فيها، ولا نأمة. أمّا في هذه الليلة، ماحدث فيها، كان مخالفاً لماضيها. الرجل واثق، أن ما يجري، كان واقعاً ملموساً.

وهكذا جزم بوجود امرأة فيها، مئةً بالمئة. كيف يصدّق غيره، ويكذب نفسه؟ وهي تجالسه في غرفته، وجهاً لوجهٍ. وتناجيه همساً. وتكلّمه مشافهةً: "مروان، لم أصدّق نفسي أنني، في هذه الغرفة. السعادة تغمرني وأنا أرى نفسي فيها".

وعَبَرت المرأة الزائرة، في سماء عينيه شفيفة كالغيم. تشرح له سعادتها، وفرحها، في لقياه هذه الليلة. وتسأله عن أحواله الخاصّة والعامّة. وكيف يعيش؟ "أيامي، بعدك، كئيبةٌ، ياسلمى.. أهكذا تتركينني وحيداً، في غرفتي؟ لقد أطلتِ غيبتَك، ياحبيتي"..

أجاب مروان المرأة، ومدّ يده ليصافحها. بل مدّ يديه الاثنتين ليضمّها إلى صدره العطشان. كما كانت عادته معها، منذ عدة سنوات. ولكن زائرته لاذت عنه، هذه المرة. كلّمها بصوت مسموع: "أنتِ، مازلتِ تحبيّن الغنجَ. أين اختفيت؟ اخرجي، من خلف السرير. أو من وراء الطاولة. هيّا.."‍!

ثم أحدث ضجة، وهو يدور، في أرجاء الغرفة، ويقلب الأرائك، والطاولة بحثاً عنها. أخيراً أراد أن يُشعل الضوء. سمع صوتها ثانية. بل أقبلت عليه بهيّةً باهرةً. كأنها مسروقةٌ، توّاً، من عالم الحوريّات. ونطقت: "لا. لاتشعل المصباح، يامروان. أنا عدت إليك. إن أشعلته أغادر الغرفة".

نظر إليها مروان، من خلال غبشة عينيه، كالمشدوه. تقدّم منها. تقدّمت منه. قال لها: "هل يزعجك الضوء، ياسلمى؟ أو أن ضوءاً على ضوءٍ، لايلتقيان؟".

نغمتْ له: "ولكن للعتمة طعماً آخر. سحراً لايجارى في متعة اللقاء"!

ابتسم لها. وقال: "ألهذا، أحببتِ الظلام، وزرتني فيه"؟؟

ودنا منها. علّه يقطف قمراً من أعلى خدها. ابتعدت عنه، وقالت: "أجل، بساط الظلام خيرٌ لمناجاة الروح والنفس، من بساط النور. ففيه تتأجّج العواطف. ويصل الحبُ إلى أسمى درجاته".

-"تفضّلي. اجلسي هنا، بجانب الطاولة، أيتها الرومانسية الجديدة. وتمتّعي برموز الليل، وأشيائه الخفيّة.. أ، على فطنة. ماذا تريدين أن تشربي: قهوةً، أم شاياً؟….

آه! كم رشفتُ من يديك القهوة، ياسلمى"؟

وراح يحدث حركة في (بابور الغاز)، الذي تُركَ مهملاً، في ركن الغرفة، منذ زمنٍ. وجاء بفنجانين مملوءين قهوة. ووضعهما على الطاولة. ولكنه لم يجدها. ناداها: "لاتمزحي، ياسلمى اخرجي من خلف الأريكة".

وتقدّم نحو الأريكة. لم يجدها. "متى كنتِ تحبّين لعبة الاستغماية هذه، التي تقومين بها، الآن، معي؟ أنا بشوق لأحادثك. هلمي إلى قهوتك. وسأشرع بتسوية السرير".

سمع صوتها بأذنيه: "أنا هنا عند الطاولة".

وشاهدها، بعينيه، تنتصب بقامتها، في الغرفة، وهي تميس مختالة، كصفصافة، تهب عليها ريح. ثم أخذت ترشف القهوة. انبسطت أساريره. عاد وجلس، معها، بجانب الطاولة. بعد أن انتهى من رشف فنجانه، قال لها: "سأسوّي السرير بنفسي".

أومأت، له، برأسها، بالإيجاب. ومنحت جوَّ الغرفة هفيفاً منعشاً، من زفّات شعرها المندّى بالطيوب. فنهض، من توّه. بل قفز كالمجنون. يسوّي السرير المزدوج، الذي كان قد ارتمى عليه، منذ أول الليل مغموماً، مهموماً، من زحمة ماشاهده، وماعاناه في نهاره.

مَدَّ الفراش الكبير على حصيرة السرير. ووضع وسادتين، في نهايته، ممايلي جدارَ الغرفة. وطرح فوقه شرشفاً ناعماً، من حرير (الساتان). كان مطويّاً، منذ بضع سنوات.

ثم هيّأ لحافاً عريضاً. تذكّر كيف كانت، هي، تسوّي هذا السرير. وتغمر جسمه بنعومتها المتناهية كالقطن. ودعاها: "هيا، ياسلمى".

لم تنبس بأية كلمة.

كرّر: "لقد جهزت السرير، كما كنتِ تجهـ..".

قاطعته: "كان عليك ألاّ تتعب نفسك، يامروان. قصدتُ، الليلة، زيارتك، فحسب".

سمع مروان سلمى تتكلم، من خلفه. التفت ناحيتها. دارت وراءه، حتى لايراها.

وظل هكذا، يدور حول نفسه، كحجر الرحى. إلى أن تعب وكلَّ. جلس على حافة السرير. وجدها بجانبه. صاح: "أتيتِ؟؟ … هيا لننام".

أجابته: "أريد أن أسهر. فالليل مغرٍ، ونديٌ"!

سارع، بحيوية فائقة، وأحضر لها كرسياً، بحذاء الطاولة. وسألها: "أتحتسين القهوة، مرة ثانية"؟

طامنتْ برأسها له: أن نعم.

فهمَّ إلى أدواته الأولى، يلملمها: (بابور الغاز) الركوة. السكر. الملعقة. الفناجين...

ولا يدري، كيف أتى بالقهوة سريعاً. ولكنه، كالعادة. لم يجدها جالسة، على الكرسي، حول الطاولة. ناداها: "سلمى، كفى مُزاحاً معي".

أطلت عليه، برأسها الوديع، من جانب خزانة الثياب. فطن. قال لها: "هلمّي نرتد ثيابنا".

وفتح أبواب الخزانة الملأى بالألبسة. أخذ ينزع الفساتين النسائية المعلّقة، داخل الدروج. ثم ارتدى، هو، بذلة جديدة. سوداء اللون. ذات قَرَنْفُلَةٍ حمراءَ اصطناعيةٍ، في زاوية ياقتها اليسرى. قال لها: "انظري، سلمى، إليَّ. هذه بذلتي، التي اشتريتها لي".

ردَّتْ عليه: "أعرف، يامروان. وأنا التي اخترتها لك.. أواه! كم هي أنيقة وجميلة على جسمك"!

لشدّ مافرح مروان، من كلام سلمى. وراح يمشي، ويتبختر ببذلته الـ "الرائعة"، في أرض الغرفة، أمامها. مثل ديك حبش.

ثم جهم وجهه، فجأة، كأنه صُدِمَ. وصاح: "أف.ف..! سلمى. لم أتمكّن، من إعادة سوارِك الذهبي، الذي دفعته ثمناً لها".

وأخذ يبكي، ويعول، كطفل. أمامها. كفكفت، هي، دموعه. وقالت له: "أنا سامحتك، يامروان، لأنك رجل وفيّ. لذا كفّ عن البكاء. ودعنا نجلسْ حول الطاولة..".

عاد وانشرح صدره. وجرجر كرسيّه إلى الطاولة.

ما أن جلس، معها. حتّى سمع طرقاً متواصلاً، على باب الغرفة. انتفضت المرأة، قبالته، واقفة، مذعورة: "هاهم قد جاؤوا يفسدون، علينا، اجتماعنا هذا، يامروان".

ورأى دمعتين تتلألآن، على تلتي وجنتيها.

ماذا حدث؟ لِمَ جاؤوا؟ قبل قليل كان هذا الـ "مروان" مسافراً في جوّ من عبير!

وحين استفاق، من ذهوله. كانت المرأة، قد غابت من أمام عينيه. كأنها تبخّرت في الحال.

وفيما هو يناديها: "ابقي، معي، ياسلمى، لا تتركيني وحدي. لا تغادري الغرفة".

كانت الطرقات تتوالى، على الباب. والصياح يملأ الفضاء: "افتح، يامروان. افتح يارجل. مابالك، هذه الليلة؟ لقد أقلقت راحتنا، وطيّرت النوم من عيوننا.."!

ظل هو واقفاً، خلف النافذة المقابلة. يصيح: "سلمى، ارجعي. سلمى ارجعي..".

كان صوته شجياً مريراً. يسقط النجوم، من عليائها، من فرط حزنه.

ثم فتحوا الباب. وأشعلوا الضوء. وجدوا الغرفة مملوءة بالأثاث المبعثر: أواني القهوة. والألبسة الملقاة هنا وهناك. والأرائك المقلوبة..

سلّطوا عليه عيونهم كسيوف قاطعة: "هل جننت، يا مروان، في منتصف هذا الليل"؟

التفت، ناحيتهم، مروان. رأى حوله وجوهاً مشمّعة كالجلاتين. وأجساماً جامدة كالمومياء. نهرهم، بصوته القوي: "لقد أفسدتم، علي، سهرتي، معها، كانت، هي، هنا، وهربت بسببكم".

-"أنت تهذي. زوجتك ماتت منذ عدة سنو..".

-"لا، بل كانت، هي، هنا".
  • فيس بوك
  • بنترست
  • تويتر
  • واتس اب
  • لينكد ان
  • بريد
author-img
sinan

إظهار التعليقات
  • تعليق عادي
  • تعليق متطور
  • عن طريق المحرر بالاسفل يمكنك اضافة تعليق متطور كتعليق بصورة او فيديو يوتيوب او كود او اقتباس فقط قم بادخال الكود او النص للاقتباس او رابط صورة او فيديو يوتيوب ثم اضغط على الزر بالاسفل للتحويل قم بنسخ النتيجة واستخدمها للتعليق