الرجل والليل
تنفّست الطبيعة رياحاً باردة، فوق السفوح، والجبال، وأطبق الليل فجأة.
لم يَرَ الرجل كيف انطمرت الشمس، بالغيوم الغربية، ولا، كيف تكدّست كتل الظلام، وملأت كرة الكون المطلقة، ابتسم لهذا الليل، الذي أقبل، في هذا المساء، يقطر عتمة ونداوة. عَبّ أنفاساً رهيفة، وترك وجهه لدغدغة أنامل الهواء الناعمة. تذكّر حين كانت رطوبة الليل هذه، تجعله يغطّ بنوم عميق هنيء. أمّا الآن، فالأمر مختلف لديه.
نهض، تثاءب، حرّك يديه ورجليه، بتمارين شبه رياضية، ليجري الدم في عروق جسمه، الذي ظلّ جامداً طوال النهار.
-"أيّها الليل الحميم، أنت ضيائي، وأنت قرّة عيني، في وحشتي، ووحدتي".
كلّم الرجل الليل، في سرّه بعد أن اطمأنّ إلى جسمه. أ.. أجسمه!!
فطن الرجل بجسمه هذا، الذي أيقظه، قبل قليل، لقد أرهقه كثيراً في هذه الأيام، وإن كان مطواعاً له، ومصداقاً، كصاحبه الليل نفسه.
مشى قليلاً شعر كأن أصواتاً خفيّة تتفرقع، من بين الأعصاب وألياف العضلات: "ما شاء الله! عادت الحياة تنبض فيه- في جسمه.. بقوة"!
تكلّم الرجل عن جسمه، والتفت حوله، نظر في الاتجاهات كلها، الظلام جدّ كثيف، أحسّ كأنه موجود في بوتقة مسدودة، ومعزولة عن العالم، خطا، وتلمّس ما كان قد أودعه، من أشياء في مكمنه، وحشا به جيوبه وأعبابه ويديه، ثم امتشق قامةً مديدة، في الهواء، ومشى بخيلاء، في وسط الحلكة.
"أنا، جاهز الآن، أيها الليل"..
حنى الليل جبهته العظيمة، على الرجل وغمره بنسيجه الرخف الرهف. وأفسح له، من بين تجاويف صدره، مساحات عميقة.
حملق الرجل في تعاريج الأودية، ومنحنيات الهضاب والتلاع، التي كانت كلها سواداً بسواد. اغتبط. إنه صار، حقيقة، من هواة الظلام. ويحب أن يعيش، في سراديب الأرض المملوءة بالعتمة. " شكراً، أيتها البطاح الملفّعة بالسواد"..
عاد، وشكر الأماكن، التي أسدل الليل "ستره" عليها. والتي سيدوسها. بل هَمَّ ليغذ السير..
الليل، من جهته، همهم له، من خلال تجاويف الأخاديد والوهاد: أن لا تخف، أيها الرجل، سأغمرك برهو غبارى، أينما تذهب…..
وأخذ الليل يتململ، بجسده الهائل، فوق الرجل، ويلفّه بنسيج سديمه الكثيف الكتيم. فرح الرجل بأن حالة ما، من الحنوّ والعطف. انهالت تدبّ، في أوصاله، وتغرقه. إذن، فليتأكد، ثانية، مما يحمله. الكل لديه تمام.
لذا. لم يبق إلا أن يثقب، بعينيه، حجب صديقه، ويتابع.
راح يحملق في المكان، والأشجار، وسائر الأشياء، وهو يمشي.
ـ "عال! عال!… خيمة دامسة مطروحة، على سطح الأرض، لا ينفذ منها بريق النجوم المتعالي، إلا بصعوبة"!..
فكر الرجل. وبَشَّ وجهه، لهذا الظلام الذي يحيط به، بل تابع. كأنه فطن: "وأنت، أيها القمر، يا سراج الأرض. اقلع عن الظهور. أو ارجئ طلوعك حتى الفجر وكنْ رفيقاً في نورك. اجعله ضئيلاً، كنور "نواصة"…..".
ثم هدج…
طفق يدرج فوق تضاريس ملتوية. غار في أعماق أودية عديدة، تلبّس جذوع أشجار كثيرة، وأخيراً، وقف بجانب سنديانة كبيرة، معرّشة، ومعمّرة.
ـ "هذه، هي، نقطة علامك"./الليل أشار إليه بشجرة السنديان. فصعد الرجل جذع السنديانة، والتصق بأغصانها، لبعض الوقت..
الليل فهيم، شفّاف، ووفيّ، يوحي لأصدقائه. ويرى لهم أصغر الأشياء، ويلتقط لهم أدقّ الأصوات، فوق هذه الأرض.
ثمة حرتقة آليات…؟..
وإن هي إلا ثوانٍ، حتى تلامعت سيوف الأنوار الكاشفة، من (البرجكتورات)، وراحت تحزّ كرات الليل. وتبدّد حلكته.
حزن الليل والرجل معاً.. بل كاد الرجل تنزف روحه من جسده… "بضّعوك، أيها الليل، بشفرات أنوارهم الجارحة"… /بصعوبة بالغة نطق، ليعبّر عن هذا الحدث، الذي دهم المكان.
ولكن عاد الليل، وشجَّع: "لن أبرح، بظلامي، هذا المكان، مهما احتشدت أنوارهم. سأبقى هنا معك، فالتحم بشجرتك، كغصنٍ منها، أيها الرجل..".
ثم تلا ذلك حفيف هامس. دخل في أذني الرجل: "لا تخشَ عليه أيها الليل. سيبقى، كوديعة عندي. أحضنه في عبّي".
وهكذا عاد الرجل، واختفى، في وكره العالي، ظلّ يتأرجح مع أغصان شجرة السنديان. وأوشك أن ينخلع قلبه، من مكانه، مع كل هبّة ريح. من له قلب آدمي، ويتحمّل ذلك الهدير، وسطوع تلك الأنوار الجهنمية؟؟
ـ "متى ستخمد أضواؤهم وحركاتهم، ياليل"؟.. /صاح في داخله، يكلّم صديقه. كأنه مَلَّ خوفاً وانتظاراً.
تنهّد الليل بحرقة. وبكى بدموع غزيرة. فاضت على الجبال، والسفوح، والأودية، لقد عاد يستذكر: "أخفيت الأطفال في مخبأ أمين، تحت الأرض. وغطيته، بساتر ظلامي، حضنتهم به، مثل الدجاجة التي تحضن بجناحيها صيصانها. ولكن انفجارهم الفظيع اللعين، دمرهم جميعاً".
شارك الرجل الليل في البكاء، وقال: "أطفال (قانا) أطفالي، يا ليل. لي بهم خمسة. سكبوا من دمي. ثم طارت أشلاؤهم رذاذاً، في الفضاء"..
هَزَّ الليل، للرجل، جسده العظيم، من خلال أغصان السنديانة. ولكن الرجل تابع: "ومنذ ذاك الوقت، صممت على أن أنتقم، تحت جنح حندسك البهيم. أيها الليل. وهأنذا، قد هجرت ضوء النهار. وأطلتُ شعور لحيتي، ورأسي. وصرتُ كأحد وحوشك".
دَفَّ الليل، بأطراف عباءته الظليلة، فوق الرجل، كأن يطلق له حرية الحركة.
وفي هذه الأثناء، كانت الأنوار قد تلاشت. والأصوات قد خمدت. فهبط الرجل عن شجرة السنديان. واندسّ بين دهاليز الليل. أخذ يدوس، بحذائه المطاطي، العشب، والحصى، والطين، وكأنه لا يمشي.
أين سيطمر "عبوته"، يا ترى، وينتقم؟!..
همهم له الليل، وهو يعبر أخدود وادٍ: "لا تنسَ نفسك أنك أحد الذئاب، في أحراجي، وسفوح هضابي، أيها الرجل".
قبل الرجل نصيحة الليل، وطامن قامته، وراح يدبّ على يديه ورجليه، كذئب.
في وسط طريق معبدة، تصل مابين (القاسمية) والـ(كريات شمونة). طَمَرَ الرجل "عبوته". ورجع إلى التعاريج المملوءة بالسواد
تعليقات: (0)