المرأة الربلة، قبالته، عند كيوسك الفلافل، بدت مثل حبَّات لؤلؤ طازجة صاغها الخالق للتو. عيناه المتحركتان بجنون من وراء نظارته الطبية، بدتا وكأنما هما تريدان أن تحتفظا بمنظر المرأة إلى أبد الآبدين. تحركت المرأة باتجاه صغيرها إلى جانبها. انحنت عليه همَّت بتقبيله. لم تقبله في اللحظة الأخيرة. حالة من الغضب اجتاحته، عبَّر عنها برفع رأسه عاليا في الفضاء. رمت المراة بكلمات إلى بائع الفلافل، وعادت إلى صغيرها. شعرها يغطي وجه الصغير، همَّت بالصغير، ربما قبلته، لم يتأكد. رفع رأسه إلى أقصى مدى يمكن أن يرفعه إليه. بدا متعبا، عاد إلى وقفته الأولى غير عابئ بأحد. كان يقف هناك في مركز البلدة، وكأنما هو الرجل الوحيد، وكأنما لا وجود لأحد سواهما، هي وهو.
حانت منه التفاتة إلى حيث أقف. دنا مني:
-منذ متى تقف هنا؟
بقيت صامتا، تابع:
-أرأيت إلى اللؤلؤ الحي؟ إنني أكاد أجن قبالة مشهد لامرأة مثل هذه.
أطلب منه أن يخفض صوته لئلا يسمعه أحد. تتحرك عيناه، يهتف بي:
-دعك من هذه الخزعبلات. لا أحد يرى أحدًا في هذه البلدة.
يرسل ابتسامة عمرها ثلاثون عاما نحوي.
-هؤلاء النسوة سيذبحنني. كيف سأغادر هذا العالم، وأترك ورائي هذا كله. أنت لا ترى ما أرى. لا أحد في هذه البلدة، يرى ما أرى. لا أنت ولا غيرك يرى بحر البياض على كاحلي امرأة.
ننطلق في الشارع. نصل إلى مقهى. نجلس هناك، يرسل نظرة حافلة بالابتسام نحوي:
-اشتقت إليك. منذ فترة لما أرك. أتذكر أيام الكتابة؟
أتذكَّر قصيدة كتبها عن موظفة بنك جن جنونه بها قبل أكثر من ثلاثين عاما اهتف به:
-أتذكُرُ كلود؟
يشرد إلى البعيد:
-وهل أنسى؟ تلك كانت أحلى قصيدة في حياتي. بعد أن كتبتها، رافقت الشاعر محرم النجار إلى صحيفة "المنار". كان رحمه الله ذا علاقة طيبة بمحررها. في الطريق ناولته القصيدة. قرأها. نظر إلي، سألني ما إذا كنت غارقا في بحور الهوى كما يظهر من القصيدة، فابتسمت وقلت له أكثر مما تتصوَّر. أكثر مما تتصوَّر بكثير. آخ يا أستاذ لو تراها (يصمت، يضع يده على خده ويتابع) أخ تلك كانت أيامها لها معنى. يومها رجوته أن يتوسَّط لي في نشر القصيدة، كي أطلعها عليها، فقال لي تكرم ومازحني قائلا أعتقد أن القصيدة أولا ونشرها ثانيا، يستحق أن تدعوني إلى عشاء، فقلت له تكرم يا أستاذ تكرم. في مكتب الصحيفة قدم القصيدة إلى صديقه المحرر. أنت تعرف العلاقة التي ربطت بين النجار ومحرر الصحيفة. قرأ المحرر القصيدة، فقال: ما هذا الحب؟ هذه قصيدة حب حقيقية.
وقرأ قدماها كالؤلؤ، ومضى يقرأ. نظر يومها إليَّ وإلى الأستاذ النجار: لكن من هي كلود هذه؟ ألا يمكن أن نواجه مشاكل مع أهلها أو معها هي؟
ويا حبيبي ع الأستاذ النجار، لما سمع هذا الكلام تصدَّى لصاحبه: "ومين قلَّك إنو بعني كلود موظفة البنك؟ مين قلَّك هذا؟ يمكن إنها تكون كلود بنت متخيَّلة، من عكا أو من سخنين أو من أي بلد من بلداتنا. الاسم يا أستاذ في العمل الأدبي ممكن إنو يكون مختلق. تقلقش. هذا آخر موضوع ممكن إنك تفكر فيه".
ويوم الجمعة طلعت الجريدة. يا حبيبك! وحملتها مثل المجنون، كان اسم كلود يضوّي فيها زي اللولو.
وقاطعته:
-وشو صار بعدين؟ شافت القصيدة؟
-بعرفش. أكيد شافتها، أو حدا فرجاها إياها، بس اللي محيَّرني لحد اليوم، هو إني مش قادر أنساها وأنسى اللولو في إجريها. كلود كانت مرَة حقيقية. كل مرَّة بشوفها بتذكرني فيها. المرَة اللي كانت قبال كيوسك الفلافل قبل شوي ذكَّرتني فيها. كل ما بشوف مرَة في ضو أبيض في إجريها بحس بكلود. بحس إنو ضَو كلود فات على بيتي. أنا كنت على استعداد لو إنو أبوي وافق إنو ييجي معي ويزوجني إياها، إني أكون متل الخاتم بإيدها. الله يسامحو أبوي مخلنيش أفرح وتركني أعاني قدام كل مرَة بتذكِّرني إجريها بجرين كلود، وعشان هيك بدي أقُلَّك، اكتب عن هذا الموضوع اكتب عن حرمان الآباء لأبنائهم من النسوان اللي بحبوهن. أنت اليوم كاتب مشهور وممكن إنهم الناس يتأثروا بكلامك...
وتوقف عن التحدث فجأة، وتمعَّنت في وجهه. كانت عيناه تتحركان بسرعة هائلة وراء نظّارته، وكان يرسل نظرة عبر زجاج باب المقهى. أرسلتُ النظر إلى حيث نظر. كانت هناك المرأة ذاتها، المرأة التي وقفت قبالة كيوسك الفلافل، قبل قليل. رأيت طرف قدمها المضيء، وهو يختفي، من زاوية النظر، وشبَّ من نظر إليها على قدميه، وهو يقول: كم كنت مجنونا، كما كنت مجنونا، ومضى. أردتُ أن أسأله عن سبب لومه لنفسه ورميه لها بالجنون، إلا أنه مضى، تاركا إياي لأفكاري وتساؤلاتي. ترى أتكون هي كلود ذاتها ظهرت بعد ثلاثين عاما؟ واكتشف صاحب القصيدة عنها، بعد أن رآها من زاوية باب المقهى أنها هي؟ أم تراها امرأة أدركت ما به من وجد، فافتعلت المرور من باب المقهى، كي تشعل المزيد من النار في قلبه.
أيا كان الأمر، سار عاشق كلود، باتجاه الفضاء في الخارج. سار تاركا إياي لأسئلة حول النساء والرجال، ومخلِّفا وراءه بحيرة من اللؤلؤ الأبيض.
الكاتب :ناجي ظاهر
تعليقات: (0)