القائمة الرئيسية

الصفحات

خريف

 




في الوقت الذي بدأت الشمس تشيح بوجهها، متدثرة بغشاء رمادي يسودّ باطراد، كانت غشاوة مماثلة تنسدل في عيني، فتمعن المشاهد في ارتدادها إلى زمن تنغل فيه الأحداث، وتتردد في أركانه أصداء موقعة لنوبات تتواتر حادة في أوقات مشابهة. وهذا ما يجعل من الليل شركاً، أعيش طوال النهار وسواسه.

الليل والخريف مروعان، فكيف إذا اجتمعا؟!

"ليس ليل الشتاء أقل قسوة. لكن صخب الخصوبة وترقب الخضرة وصدى الانبعاث، على الرغم مما يرافق ذلك من حركة ورعب، تثير إحساساً بالمشاركة، حتى لو كان تخاصماً واصطراعاً، فتشعر أنك لست وحيداً، كما هي حالك الآن!"

ساكناً بانتظار أمر جلل، كما يشي ليل الخريف بتكاثف عتمته، وما يخلفه اصفرار النهار المتقاصر في النفس من إحساس بالمرارة والخسران. ربما يزيد من وقع كل ذلك توجس من أوقات أكثر عصفاً. هل تكفي هذه المبررات لكل هذا القنوط؟!

-2-

ذات أمسية حالكة، قال أبي:

- صرخت أمك بجنون، فاندفعتُ راكضاً إلى المولدة في القرية التالية. لم يكن الوقت يسمح بإحضار إحدى جدتيك، أو أي من نسوة الحارة البعيدة. استطعت البقاء، وأصر توأمك على مرافقة أمه إلى المقبرة.

"لم يكن ذنبك، أو على الأقل، ليس ما يثبت عكس ذلك، ولا ما يريح.

ما زلتَ تقيم النذر الذي أولمه والدك عن روحك. وها أنت تستمر، غير متأكد أيضاً من أن هذا البقاء، بكل ما يحمله من أصداء وزفرات، هو من فضائله."

*

"مصلوب في دوارة التقصي، في أي سمت تروم التوجه، تتعثر بحشرجات النكوص، ونتوءات التحسر. تغربك اللحظات طويلاً، قبل أن تلقيك مثخناً بالقروح. فإلى أية نهاية تلوذ؟! وبأية خاتمة تستعيذ؟! هل المسارات أم الساري؟! وما في الرجوع وعد؟!"

-3-

البدايات الحثيثة المتدافعة لم تتوقف، رغم كل ما كان في مقتبل الحضور من اكتئاب. والخريف فصل البدايات والنهوض المتواثب عبر الدروب المستحيلة، كما بدت في كثير من الأحيان. لم أتردد. وفي كل ابتداء استعداد وأمل، وزوادة من دعاء، ونذور وصلوات.

لم تكن البديلة عن أمي أماً. ولم تكن قارسة. لكنني لم أحس بها رضاً أو اقتناعاً، رغم محاولات أبي الدائبة. وهذا ما كان يتركني بعيداً أطول فترة ممكنة، مع إحساس بالاغتراب، والمسافة تكاد لا تذكر، قبل أن يهيمن كل ذلك البعد في تلك المهمة. كان الإحساس بالفاقة أكثر منها، وشعور بالاضطراب لا ينثني. رغم إشغال الوقت بما تتطلبه الواجبات، وما يستفيض عن ذلك من محاولات الاقتناع بما هو كائن، وتوقع ما يمكن أن يكون أفضل. 

*

حين أستذكر ذلك الخريف، يختلط علي الأمر. فقد تدافعت رزمة من البدايات في وقت قصير، لأحتار في تقديرها، أو حتى توصيفها. فهل كانت متوازية أم متتابعة؟! وأيُّها كانت مقدمة للأخرى؟! أم أن لكل منها سبباً منفرداً؟! فأصل بالتالي إلى الدوامة التي تجعلني أفكر بالطريقة ذاتها: تلك النهايات التي خلص إليها بعضها، والأخرى التي لما تختتم بعد. رغم أن ملامحها بادية، وخلاصتها لا تخفى.

"خطر لك مراراً أن تتحكم بالمسارات جميعاً، وتنهي الأمور كلها دفعة واحدة، بطريقة تختارها. لكن كل ذلك بقي أمنيات تختلف درجة حلاوتها من وقت لآخر."

-4-

لماذا انتهت المهمة بتلك السرعة، وتلك الطريقة؟!

لماذا ابتدأت بتسارع محموم، وطقوس غريبة؟!

أسئلة ما تزال عالقة في ثنايا الفصول بكل ألوانها. لكنها تتكاثف في شفق الخريف، كل خريف. لتنهمر في لياليه حصى أو أشواكاً، أو حدوداً حادة!

*

(كما بدأتَ تنتهي..)

هل كانت تلك المرأة تصدق، تخمن، تلعب؟!

هيكلها يوحي بالغرابة، لباسها، الألوان الكامدة على يديها ووجهها، خواتمها، شعرها المشعث..

هذا ما بدت عليه، حين كان غروب الخريف يرمد.

ماذا تقصد؟! ومن تكون؟! وهل تقول الحقيقة؟!

ليست شحاذة، لم تطلب مالاً، ولم تأخذ سوى كسرة خبز: لو تغمس بالزيت، تكون أطيب.

كان يمكن أن تنام عندنا، كما طلب منها والدي. لولا الأم البديلة:

" خفتَ أن تفعل، ذلك يكفي، لست مؤهلاً للمزيد.."

هل الحقيقة فوضوية إلى هذا الحد؟! هل هي غريبة؟! أم أنها لا تحتاج شكلاً مناسباً أو هيئة محددة؟!

لكن الشكل الذي بدأت به تلك المهمة كان غريباً، مباغتاً، عارضاً. والنتيجة قارسة.

تلك المرأة برزت فجأة، مع بدء الإعلان عن المهمة. لطالما فكرت بامرأة مميزة. ولم يكن مجال للتفكير، ولم تترك العواطف أية فرصة للمحاكمة. ولا الاستعداد للمهمة كان يمكن أن يعين في ذلك. كما لا تترك المحاكمة الآن أية فسحة للعواطف كي تبرر ما كان، أو تسكت عن تبكيت، أو تخفي قنوطاً بعد سنوات من ذلك الختام.

*

كما بدأت أنتهي!

متى؟! كيف؟! أين؟!

هل سيموت أبي معي؟! أبي الذي حزن كثيراً من أجلي، بعد الذي حصل.

ضحك:

- هذا كلام يدعو للسخرية. كلنا سننتهي كما ابتدأنا.

قلت:

- الطريقة الغريبة في قوله، وعرضه، وتأكيده تجعله ليس طبيعياً.

تحولت الضحكة إلى أسى مكتوم:

- أنت من سيجعله كذلك يا بني، أو تتمناه.

-5-

حين أفكر بتلك المهمة، والظروف التي رافقتها، أتمثل حالاً من الذهول المر، والحيرة الشائكة. فما الذي دفعني لإنهاء المهمة؟! والأشياء قد بدأت تأخذ مسارها الطبيعي، والمنغصات التي ترافق حال الغريب عادة بدأت تتحلل؟! ومن أين جاء ذلك الإحساس بالنكوص؟! أو ربما ذلك الشعور بالعظمة؟! فبدت المهمة، بكل ما يمكن أن ينجم عنها، هزيلة ضئيلة لا تستحق الوقت الذي سيهرق من أجلها، والاحتمالات التي ستتلاشى لمجرد الارتهان لفصولها.

وهذا يقود إلى الوسواس الذي دفعني إليها.

لم تكن نكسةٌ تودي إلى الهرب، ولا خيبة مفاجئة تجر إلى الانتحار، ولا طموحٌ يدفع للمغامرة.

إذن؟!

تأخذني الأفكار عميقاً، لتجعل من تلك المهمة اختصاراً رمزياً للرحلة كلها، الرحلة التي يمكن أن تختتم بالطريقة ذاتها. وهذا ما يعيد إلى الواجهة العبارة التي رددتها تلك المرأة بثقة، وربما بأسى محايد، ما تزال ملامحه المتكهنة تستثيرني. فأنقب في البدايات التي تؤدي، أو يمكن أن تؤول إلى تلك النهايات.

وهذا ما يجعلني أقعد طوال الأيام، أفكر في ما كان ويكون. فأصل إلى انكفاء عن الفعل. مما يجعل الفصل التالي مرجأ أو ملغى. فيريحني من نتائج جديدة لا تحمل سوى المزيد من النكسات.

بيد أن هذا الأمر بذاته يجعل الوقت والفصول بلا معنى، والرحلة كلها بلا طعم سوى المرارة.

 

وعلى الرغم من ذلك، فإن الشيء الذي ينخرني في هذه الأمسية الخريفية، والشمس أكملت غيابها القاتم، أن كل الإشارات توحي بوسواس بدأ لكزه الواخز الملح، وترافق ذلك مع ملامح امرأة تبدو مميزة، إن هذا الخريف مختلف.


  • فيس بوك
  • بنترست
  • تويتر
  • واتس اب
  • لينكد ان
  • بريد
author-img
سنان

إظهار التعليقات
  • تعليق عادي
  • تعليق متطور
  • عن طريق المحرر بالاسفل يمكنك اضافة تعليق متطور كتعليق بصورة او فيديو يوتيوب او كود او اقتباس فقط قم بادخال الكود او النص للاقتباس او رابط صورة او فيديو يوتيوب ثم اضغط على الزر بالاسفل للتحويل قم بنسخ النتيجة واستخدمها للتعليق