القائمة الرئيسية

الصفحات

حمامة تنزف

 

#أدبيات ✉️



#حمامة_تنزف🕊

 ظهر المساء غدرًا، وداهمت الريح الشوارع، وصبغ الضباب الرمادي المدينة، تجولت جوارحي بين الأزقة وغرقت أناملي في خصلات شعر الليل السوداء، على نوافذ مدينتي الترابية، في صرحها الضيق، وممراتها الفارغة، والإنارة الخافتة، أجول بين شرايين عاصمتي الصغيرة،

أسمع أنين كلماتها البكماءِ التي ماتتْ قبل أن ترى النورَ، و الرثاءِ الذي مزق نياط عيونها الواسعة.

خرجت باحثة عن دواءٍ لسقمٍ قد عشعش داخلي، لطالما داوتْ مدينتي جراحي،

صغيرة جدًا لا تحملُ أزهاراً ولم يكُ بها أنهاراً، ولكنها تحتضن هشاشتي، وأسألها كثيراً كيف تمسحين بيديكِ على ندبات وجعي، ومنازلكِ أهدرتها الحروبُ؟ 

والمقابرُ داخلكِ في ازدياد؟ 

ألا تحتاجين من يخفف عنكِ الكبد؟!

ولكنها تُجيبني بابتسامةٍ طاهرةٍ، وتصمتُ.

أحملها في عبق نهر من سلسبيل عذب بين أوردتي. 

أُقبِّل وهن مفاصلها بكل حبْ، أخطو في شوارعها وأنا بجدرانها أهيم، وفجأة!

رأيت ظلاً على الرصيف!

ثار داخلي بركانٌ صاخبٌ؛ خوفًا من تِلك الدماء المترسبة في المكان، اقتربتُ خوفًا بأن هُنالك شظايا من جسدِ إنسان أصابتها وخزة من وخزات الحرب، وحين وضعتُ قدمي بالقرب من النهرِ الدامي، وقعت عيني على حمامةً شاحبة كالجثة،

في عينيها صمتٌ قاتل وعلى أجفانها دموع غزيرة.

حاولتُ تضميد الفجوة المركونة على أحشائها ولكنها أبتْ.

- سألتها: لمَ لا تريدين الدواء؟

-فقالتْ: دوائي أضعته في زحمةِ الحرب والزمان.

-من أنتِ؟  

- أنا حمامةُ السلام

-صرختُ بصوت خافت: ولماذا تنزفين وأنتِ نبع الأمان؟

-ألا ترين ماذا حل بالأوطان؟ كم جثة زُرِعت في الأحضان؟

  اقتربي وازرعي السلام العالق في بياضكِ بين شقوق الحرب لعلها تنام.

أظنكِ لا ترين كيف أصبح العالم أينما وضعت قدمي، انتشلتني قذيفة قاتلة؛ حتى أني بتُ أشعرُ بالغربةِ بينكم.

أي غربةٍ في الدروبِ التي ترعرعتِ في رحم أشجارها حتى تغيمي عليها في إحدى الأيام؟!

هل تعلمينَ بإني ذهبتُ إلى زيتونةِ فلسطين؟

 على رأسي سقطَ البناء، وعدتُ إلى عرشِ بلقيس أمطرتْ السماءُ عيار القذائفِ بين أوراقي!

وحلقتُ بالقرب من غيوم دمشق ، تسللت بالقرب مني رصاصة تحملُ رائحةَ الياسمين، ومضيتُ إلى العراق لعلي أسمعُ أصواتًا نديةً فوضعتُ ريشة جناحي على مسامعي من شدة ضجيج الموت.

وهاجرتُ في شرايين سماءِ العرب. فوجهتْ فجوة بندقية الحرب رائحة بارودها على أنفاسي، وسقطتُ مختنقًا بسبب انقطاع الأكسجين.

-هل أداوي جراحكِ يا حمامة؟

-لا تستطيعين دواءَ علتي بين تراتيلِ القرآن وترانيمِ السلامِ.

حين تصرخُ المساجدُ الله أكبر قد حلتْ السكينةُ والاطمئنان،

ويرتفعُ صوتُ المؤذنِ وتصمت الأحزان.

دوائي في صلاةِ الزائرين وضحكات الذاهبين.

 حين يزفُ الصغارُ شهاداتهم لأكفان أهاليهم، وتحلقُ قبعاتُ النجاحِ لأصوات العويلِ والنحيب.

حينها فقط سأحلّق في الفضاءات بحرية.


  • فيس بوك
  • بنترست
  • تويتر
  • واتس اب
  • لينكد ان
  • بريد
author-img
sinan

إظهار التعليقات
  • تعليق عادي
  • تعليق متطور
  • عن طريق المحرر بالاسفل يمكنك اضافة تعليق متطور كتعليق بصورة او فيديو يوتيوب او كود او اقتباس فقط قم بادخال الكود او النص للاقتباس او رابط صورة او فيديو يوتيوب ثم اضغط على الزر بالاسفل للتحويل قم بنسخ النتيجة واستخدمها للتعليق