الشمس تربّعت في صدر السماء، ومنصور ما يزال يلقي ما بداخله من قصصٍ وآلامٍ وجراح.
والرجل أمامه يفيضُ إصغاءً، ودهشةً، واستيعاباً.
بينما الريح حولهما تعوي بلا رحمة، والرمال تلسع جلدهما وخزاً وحرارةً.
كطيرين متعبين التجأا إلى الظلّ من الهجير، مثقلين ومكدودين.
رانت فترة صمتٍ، وغاص كلٌّ منهما فيها كما يشاء.
-أكون أولا أكون.
قال منصور مُبدّداً الصمت، ويده اليمنى كانتْ تلعب بكومة رملٍ حارٍّ.
-جملة شكسبير الشهيرة.
قال الرجل.
ردّ منصور، وابتسامة ساخرة صفراء على فمه:
-جملة نطقت بها فكانت الشعرة التي قصمت ظهر البعير.
بانَ الفضولُ على وجه الرجل، فزحف حتى اقترب من منصور قائلاً:
-هات من البداية.
نفخَ منصور بعمق وقال:
-أكونُ محموماً كعادتي حينما يحاصرني الضيق، ويقطّعني التشظّي.
يا رجل لا أرتعد حرارةً إلاّ حينما تمرّ بي لحظات الضيق، والقلق والحيرة، وتنفصم شخصيتي، ويركبني الجنون فأشعر بدماغي يسبح في جمجمتي كسمكةٍ لعينةٍ لا تعرف السكون.
فأُحسُّ بأني لست أنا. لذا تتآلب سكاكين الجزّارين على ذبحي. ذلك اليوم..
كانت غرفتي باردةً، متعفنةً، وسريري يصرُّ صدأً ووحدةً.
كلّ شيءٍ حولي باردٌ وساكنٌ مرّ به الفناء إلاّ فمي المرتجف يخرج منه زبدٌ، وجملةٌ هي تلك.
قلتها بلا شعورٍ، فقد كان داخلي يضطرم كجذوة نارٍ.
رأسي يغلي كمرجلٍ، وعيناي حمراوان مستعرتان.
وبخارٌ ساخنٌ يخرج من أنفي.
"أكون أولا أكون" دارت هذه العبارة في رأسي تلاحق السمكة اللعينة، واختلطت مشاعري وآرائي، وأفكاري ببعضها وصمّمت في تلك اللحظة أن أجد لنفسي مكاناً.
كنت حديث العهد شعوراً بالحريّة التي ذقتها قبل أياّمٍ فقط. إذ خرجت من سجني الأخير، وألقيت في رحم بيتي البارد أفكّر وأفكّر كيف أصنع حياتي من جديد، وأبدأ من جديد فأنا كقطٍّ بسبع أرواحٍ فإمّا أن أكون هذه المرّة كما أريد وأستحق أولا. لا داعي للحياة.
ذلك اليوم.
كان ليله مُرعباً، ناشراً عباءته في كلّ مكان.
وكنت ألازم سريري الحديديّ المنفرد الشبيه
بأسرّة السجون والمستشفيات. وتُلازمني الحمى، والجوع والحيرة.
وإذ بقدمٍ سوداء كبيرة تدفع باب منزلي بقوّةٍ.
ما سمعت صوتاً قط وإنّما كان جسدي مستمرّاً بالارتجاف، وفمي يُهلوسُ بتلك الجملة اللعينة.
وتكررتْ القصّةُ نفسها، قصة منصور الخامس، الغريق الوحيد في بحر أسود هائج.
تلتفُّ حولي هياكل داكنة، مرعبة وموحشة توزّعت حول السرير وبتّ كبقعةٍ صغيرة تافهةٍ في الوسط تحبو للنجاة.
لكزني أحدهم بإصبعه. الإصبع كان كمسلّةٍ اخترقت خاصرتي.
أفقت كمجنونٍ ألملمُ نفسي، وأُخرس بيدي فمي المزبدِ.
دَبَّ الرعب في أوصالي فهذا المشهد عشته تماماً، وشريطه يُعادُ الآنَ.
-ماذا هناك؟
قلتُ بفزعٍ.
حرّكوا أرجلهم كأنّهم يتوعدونني. الوجوه ذاتها رأيتها فيما مضى.
والعيون المليئة بالشرر، والأوداج المنتفخة والعصبيّة و.. و.. حاولتُ النهوض لكنّي لم أستطعْ.
سألتهم:
-يا جماعة أنتم مخطئون، قبل أيّامٍ كنتُ في ضيافتكم، فهل اشتقتم إليّ بهذه السرعة؟!.
لم يُجبني أحدٌ، وإنّما ظلّت العيون الملأى بالغضب والحقد تحدّق بي قلت مرتجفاً:
-ما الذي عاد بكم؟.
أجابني أقربهم إليَّ:
-ألا تعرف؟.
-وحياة الأنبياء لا أعرف. ذاكرتي!! وتدبّرتُ أمرها، لن تعيد سيرتها الأولى..
تجاهلوا حيرتي وتشظيّي، وألمي. ولحظت الدماء تفور وتغلي في عروقهم مما جعل أكثرهم غضباً ينطق:
-اختر ميتتك.
-العمى حانَ وقتُ الموت!!.
قلتُ وأنا أبتلع ريقي بصعوبةٍ وقد شلّني الرعب والخوف مما سمعت.
ازداد ارتجافي، وحرارتي، ورغا الزبد على فمي وذقني. وحاولتُ أن أسكّن أيّ عضوٍ في جسدي ليهدأ لم أستطع.
وتدفقت ذاكرتي المكتوفة تفيض وتنبع.
وتذكرتُ على الفور وبشكلٍ قويٍّ ما قرأت يوماً عن إنسانٍ وضع الموضع ذاته قبل مئات السنين.
وممّا أحزنني، وزاد عليّ غمّاً وقلقاً أنّه مهما طلعت ونزلتُ، وصلتُ وجلت لا أتجاوز بأقوالي، وأفعالي قدم ذاك.
فما للسهروردي ومكانته، ونظراته الفلسفية ورسائله وكتبه العديدة وإبداعه، ومالي!!.
فإن عَظُمت فلسفتي وآرائي، فستبقى سطحية، متواضعة تُقاربُ "طنّش تعش".
تسرّب خيط طمأنينةٍ إلى قلبي، فقد خلتُ أنّهم وقعوا في خطأ وخلطٍ بيني وبين السهروردي.
فقلت لهم وقد رفعتُ عقيرتي وسلطت قليلاً:
-يا جماعة تعتقدون بأنّني السهروردي، وجئتم من جدران التاريخ لتلقوا القبض عليّ.
الحقيقة أنكم مخطئون ذاك رجلٌ ذاع صيته وفي الأعالي رتع، مما جعل نار الغيرة تشتعل في قلوب منافسيه… أمّا أنا.. ها ها…
-ورحتُ أضحك ساخراً من نفسي، وعندما حطّت قبضة أحدهم في بطني واستقرّت أكملت خنناً:
-أين الثرى من الثريّا!.
جلجل صوت آخر:
-ها.. ماذا قلت؟ أعطيناك مطلق الحريّة لتختار ميتةً، لا أن تقصّ قصص الآخرين.
أجبتهم:
-ذاك أودته أفكاره، وعلومه، وهديه إلى أن يختار موته أمّا أنا فكلّ ما أكونه محدوداً ومتقزّماً، ويدفع إلى الشفقة لا إلى الاختيار.
ما يدفعني للتساؤل بقوّةٍ موتي، بماذا يفيدكم؟!.
أجابوني:
-قلنا لك حينما أخذناكَ للمرّة الأولى.
قلتُ كالملسوع المتألمِ:
-لقد خَرّفت، لم يبقَ منها شيءٌ.
كالحراب امتدّت صوبي الأيدي لتضربني، واتسعت رقعة الأصوات من حولي، وضاع صوتي فيها:
لطمني أحدهم قائلاً:
-كاذب، والدليل أنّك تتذكر أحداث السّهروردي وحياته بحذافيرها، فهل هناك دافعٌ لموتك أكثر من ذلك؟.
قلت متألّماً، محشرجاً:
-حتى تكتمل فصول المسرحيّة، أريد مقابلة السلطان على غرار ما فعل صاحبي. نسقوا لي موعداً معه.
-السلطان في الأستانة، مسافرٌ.
-أنتظر عودته.
-بل تنتظر عندنا.
عصبوا عينيّ، وانطلقوا بي يجرجرونني ككلبٍ بدا خاوياً، وَهِنَاً. تاركين باب منزلي مفتوحاً للهوام، وصفير الريح تنعق في جوانبه الوحشة.
قذفت في بئرٍ مظلمةٍ، ضيّقةٍ، وصوت الريح وباب داري الذي يصطفق لا يفارق مخيلتي.
خواءٌ تركته خلفي. "لو أنّ مريم حيّةٌ! مريم"!! وتذكرتها زوجتي الثانية، الفقيرة، المسكينة التي تزوجتها بعد أن التقيتها في أحد شوارع المدينة تعاني هروباً وضياعاً، ويتماً وتمنّي النفس بكوّة فرجٍ وخلاصٍ تفتح لها وتنتشلها من براثن زوجة أبيها.
احتضنتها وهرعت بها إلى قريتي أضمد جراحها وجراحي.
تحت سقف غرفتي الطينيّة القديمة.
المسكينة موتها كان مأساوياً. طعم فراقها مرٌّ مازال في حلقي. خسرتها لأنني رفضت الاستماع لنصيحة أبي.
آه، لو كانت حيّة لولولت خلفي، ولربّما رقّ قلب هؤلاء عليّ فأرجؤوا أمري إلى حين عودة السلطان من الآستانة.
وصمت منصور يغصّ بالدموع. مسح الرجل عينيه وقال:
-على رسلك، أريد أن أسمع حكايتها.
ابتلع منصور جراحه وقال:
-"ذات صباحٍ أخذت الريح تصفرُ وتزعق شرسةً، حاقدةً قلت في نفسي جاء الشتاء باكراً، وراحتْ نوافذ الغرفة تصطكّ وتضطرب.
قمت من فراشي، وأغلقت درفتي النّافذة.
لكنّ الهواء أبى إلاّ الدخول من الشروخ.
نظرت إلى زوجتي، وهي نائمة كانت تتمسّك بالغطاء وتتكوّر على نفسها مقاومةً البرد.
لبست ثيابي، وخرجت إلى الحقل –عملي ريثما أعود إلى المدينة- خارج الدار لمحت جدار بيتي المطلّ على الشّارع كان متشققاً وقد يفضي إلى سقوطٍ غير متوقع.
شرخٌ كبيرٌ بادٍ للعيان يخترقه. كل يوم أراه. أقف عنده، أقذفه بنظراتي، وأخطط لترميمه وفي كلّ مرّةٍ أرجئ عملية ترميمه إلى حين.
أمّا هذا الصباح الذي أخذت الريح، تزأر، وتتلّوى، وتتحدّى فقد رأيت الوضع بأمّ عيني كان خطيراً. إذ شعرتُ بالأرض تميد من تحت قدميّ لشدّة الإعصار.
وقفت أمام الشرخ تؤرجحني الريح المجنونة أتساءل إن وقع ماذا سيحدث لنا؟ ستقتل زوجتي إن كانت في الداخل، وسيمزّق جسدها إن كانت واقفةً بقربه.
وإن لم تمت فيكسر عظامها، ويجعلها مقعدة وربّما يفقدها ذاكرتها أو أحد حواسها، ويحطمها فتقع في وجهي طيلة العمر وهذا مالا أطيقه إضافةً إلى إرهاقي بنفقات علاجها وتمريضها طويلاً. لا.. لا سمح الله زوجتي كتلة من الأحلام الصغيرة والخرافات والهروب من مآسٍ وويلات.
وسأخسر الغرفة وألجأ مضطرّاً إلى غرفة أبي الأكثر اهتراءً. بعدت بأفكاري كثيراً، وصممت أذني عن نصيحة أبي إذ قال لي لحظتئذٍ:
"-أما رأيت الشرخ في جدارك يا منصور؟!.
قلت له: سأقوم بإصلاحه.
حدجني بنظرةٍ قاسيةٍ، حازمةٍ:
-لن يفيدك إصلاح الجدار، فالشرخ عميقٌ عليك بنسفه وهدمه. ابنه من جديد، إطلع بجدارٍ قويٍّ يا ولدي.
ولم يتمّ أبي كلامه حتى دوّى صوت انهيار الغرفة كلّها فوق زوجتي.
قال الرجل متأثّراً:
-وفقدتها يا صاحبي.
تأوّه منصور بعمق:
-حسبتهم يصغون إليّ، هؤلاء الذين عصبوا عينيّ وما دريت أنّهم ألقوا بي في الزنزانة، ورحلوا عني منذ زمن.
مددت يدي ونزعت الغطاء عن عينيّ لا أحد غيري في هذه المساحة القذرة لا أحد حولي، سوى جدران باردة، مظلمة، ومتعفنة وفئران تنتشر حولي بحريّة.
اخترق البرد عظامي، وحلمت بدفءٍ يسير إليّ. كنت تعباً، لاهثاً وخائفاً من المجهول.
ومادت بي الأرض وقتها لم أعد أحِسّ بما بي. دورانٌ وجوعٌ وخواءٌ، وخوفٌ هذا ما كنت أشعر به.
بعد أسابيع، شهورٍ، سنينٍ. لم أعد أعرف وقفت مرتجفاً أمام السلطان.
فتح الرجل عينيه متسائلاً:
-السلطان!.
ردّ منصور:
-نعم أمام السلطان، وقد نسيت أن أنحني وأقدّم الطاعة وإنّما سألته على الفور: هل أنت الملك الظاهر.؟.
أجابني:
-بدأت كلامك قبل سلامك ما الذي أتاك على ذكره؟.
ارتعدتْ أوصالي وقلتُ في نفسي: "أتاك الموتُ يا تارك الصلاة… على الحالتين أنّا ميّتٌ فلِمَ لا أقول ما عندي؟.
نهرني أحدهم قائلاً:
-يسألك السلطان فلم لا تجيب.
-الملك الظاهر تعاطف كثيراً مع السهروردي، وأتوسم فيك خيراً وتبرئةً لي. آه.. يا سيدي. الملك الظاهر حاول تبرئة صاحبي لكن –ورحتُ أنظر إلى هؤلاء القساة- خلصاؤه أدانوه وأفلحوا في طمس الحقّ والنور….
في هذه الأثناء هجم عليّ أحدهم، وأراد طعني ولكنّ السلطان أوقفه بقولـه: لا.. انتظر لم يختر ميتته. لا تستعجل. له الحق في الدفاع عن نفسه.
وألفيت رحمةً ورأفةً على وجه ذلك السلطان، فها هو التاريخ يعيد نفسه، وتجري أحداثه كما جرت سابقاً وقلت مستجدياً رحمةً وعطفاً:
-يا مولاي السلطان، أنا رجلٌ عاديٌّ لست بمكانةٍ رفيعةٍ حتى يخشى مني، لست خطراً ولا منافساً.
جُلّ غايتي العيش مستوراً لكنّ ذاكرتي نشطتْ –قاتلها الله- لحمّى دهمتني، ولبستني وهذا أمرٌ خارجٌ عن إرادتي.
ولم أنتصر على أحد، لأزال من الوجود كلّ ما هنالك أن أبويّ أسمياني منصوراً تيمنّاً بنصرٍ قد أُرضي به طموحهما وحلمهما والحقّ يقال أنني مهزومٌ ومشبعٌ بالانكسارات والانهزامات، والإحباطات، فما الذي يخيف الآخرين مني؟!.
إنّ كلّ خطوة أقوم بها نتيجتها الهزيمة.
ضحك بعض من في القاعة بخبثٍ، واختلطتْ الأصواتُ وانتشر لغطٌ.
قال رجلٌ كان يقف جانب كرسي السلطان بعد أن صفّق:
-ويدّعي بعدم ملكيتك لحجّةٍ تدافع بها عن نفسك. لم نرَ ألحن من هذه الحجّة، ستكون دافعاً آخر لقتلك.
دار السلطان نظره بينه وبيني ثم ابتسم ابتسامةً خفيفةً وقال:
-إن استحقّ القتل سيقتل.
قال حاقدٌ:
-لو لم يكن هناك شيءٌ خطيرٌ يستحقّ قتله لما انتهج سياسة طنّش، فتطنيشه معناه أنّه يخفي شيئاً.
صرخ آخر:
-هناك شيءٌ باطني خطير تتستّر عليه بالتطنيش لتتجاوزنا وتستطيع العيش. وما نريده الآن معرفة ما تبطن.
وامتدتْ أصابعهم، طويلة، حادّة كحرابٍ مسنونةٍ.
اقتربت مني تحاول فقء عيني.
لاحظت القسوة في وجوههم الغليظة، البشعة، والتي تنبئ عن نصرٍ قريبٍ قد يحرزونه، بينما ارتسمت الهزيمة على وجهي.
قلتُ لنفسي: "لقد أُُدنت، وهاهم يبيحون قتلي.
هزّ السلطان رأسه، وأغمض بهدوءٍ عينيه كأنه سلّم بالأمر فصرخ الوزير بجانبه: أيّها السيّاف.
ارتعدت، وغامت الأشياء من حولي، وجفّ حلقي، وخارت قواي ووجدتني تهرب الحياة من جسدي، وتنسلّ من بين أعضائي بهدوءٍ في هذه الأثناء رفع السلطان يده مشيراً أن كفّوا عن الكلام والثرثرة، وقال:
-دعوه يختار ميتته.
سألوني مراراً، لكنّي لم أقوَ على الردّ أو التكلّم. مما اضطر الوزير لتهديدي بهذه العبارة:
-"إن لم تخترها سيختار السيّاف رقبتك.
جمعت أشلائي بصعوبةٍ، ونطقت:
-لتكن نفس ميتة صاحبي، السهروردي.
فأجاب:
-إذاً حبسٌ مظلمٌ، وامتناعٌ عن الأكل والشرب إلى أن يجيء الموت.
وزجّ كياني في الأسود، وادلهمّ كلّ شيءٍ حولي.
بردٌ، وجوعٌ، ووحدةٌ ومكانٌ مرّ فيه الفناء إلاّ فمي المرتجف يخرج منه زبدٌ وجملةٌ أكون أولا أكون.
وفجأةً تسرّبت أشعةٌ من شقّ الباب إلى وجهي تعلمني أنّ النهار طلع.
قال الرجل:
-كنت تحلم؟!
-كنت أقتل، وأُهزم حتى في الحلم.
تعليقات: (0)