أخذت كلمة ( الحريّة ) تتردّد يوماً على أسماع الملك، فسأل وزيره عن معناها، فقال له، وهو يشرَق بريقه: " هي كلمة يردّدها اللصوص وقطّاع الطرق، إذا ما وقعوا في قبضة العدالة، يا مولاي ".
فقاطعه الملك مستغرباً: " أنت مغفّل، أيّها الوزير، فالكلمة اليوم تتردّد على ألسنة رجال الأدب والثقافة أيضاً !
جمع الملك يومئذ هؤلاء الرجال، وأمر السيّاف مسروراً بقطع ألسنتهم الطويلة
خرجت كلمة ( الحريّة ) يوماً من كتاب ( طبائع الاستبداد ) في غفلة عن عين صاحبه عبد الرحمن الكواكبيّ، وراحت تجول في شوارع المدينة وأسواقها حتّى وصلت سوق النخاسة، فطار العبيد فرحاً برؤيتها، وامتعض التجّار، واكفهرّت وجوههم.
حظرت يومئذ وزارة الثقافة الكتاب، وعبثاً راح رجالها الأشدّاء يبحثون في أنحاء المدينة عن رجل، مات مسموماً منذ عشرات السنين.
( 3 )
اختلف ملوك العرب يوماً في مصدر كلمة ( الحريّة ) التي أخذت تجري على ألسنة الناس كالنهر الجارف، فمنهم من زعم أنّ مصدر الكلمة هو الثورة الفرنسيّة، ومنهم من وجد أنّه ماركسيّ – لينينيّ، ومنهم من رأى أنّه العدوّ الصهيونيّ، ولكنّ هؤلاء الملوك اتفقوا أنّ ( الحريّة ) كلمة هجينة، لا أصل لها ولا معنى..
أوصت قمّتهم الطارئة يومئذ أن نغلق نوافذنا في وجه الكلمات المبتذلة كالحريّة، وإلاّ اقتلعتنا الرياح من جذورنا، ورمتنا كالجيف المنتنة على قارعة الطريق. ومنذ ذلك اليوم قعدنا في بيوتنا كالنساء، نمسّد لحانا الكثّة حتّى وصلت وجه الأرض.
( 4 )
أثارت كلمة ( الحريّة ) عاصفةً هوجاء في أرجاء المملكة، اقتلعت قضبان السجون، ورمت بحرّاسها في ذمّة التاريخ، لكنّه سرعان ما تجشّأ بهم، ورماهم في مزبلته.
حين هدأت العاصفة وجد الملك نفسه وحيداً بلا حرّاس، فراح يبكي حظّه العاثر الذي جعله يوماً ملكاً.
( 5 )
لم يجد الملك إلاّ كلمة ( الحرية )، يطمئن بها رعيته التي أخذت تتململ من جلاّديه، فطفق يردّدها على أسماعهم في مناسبات شتّى، ولكنّه شرِق بها يوماً، فكاد يختنق.
عرف الملك يومئذ أنّ ( الحريّة ) كلمة خبيثة غير سائغة، لا يردّدها إلاّ العبيد والأعداء.
كلّما تردّدت كلمة ( الحريّة ) على أسماع الملك ارتعدت فرائصه، واصفرّ وجهه، فأشار عليه حكيم المملكة أن يحظر هذه الكلمة وأشباهها من الكلمات الخبيثة على وسائل الإعلام، ويوماً بعد آخر لم يبق في قاموس المملكة من الكلمات إلاّ كلمة ( العبوديّة ).
ومنذ ذلك العهد تحوّلت المملكة إلى مزرعة، وتحوّل رجال الإعلام إلى ثيران.
سأل معلّم تلاميذه: " ما ضدّ العبوديّة ؟ "، فوجم التلاميذ، وحاروا في أمر معلّمهم الذي لم يمض سوى شهر واحد على خروجه من السجن، ولكنّ واحداً منهم هبّ من مقعده الأخير، وكتب على السبورة بخطّ جميل: " الحريّة ".
لم يكتب التلاميذ يومئذٍ الجواب على دفاترهم، لأنّهم كانوا يعرفون أنّ الكلمة نفسها قادت آباءهم إلى السجن. وفي اليوم التالي دخل المعلّم الصفّ، فألفى تلاميذه واجمين على غير عادتهم، ولاحظ أوّلَ وهلة أنّ المقعد الأخير كان فارغاً.
أطلق وليد يوماً صرخته الأولى في وجه أمّه، وقال لها متعجّباً: " ما أجمل الحريّة ! ".
كمّت الأمّ فم وليدها حتّى كاد يختنق، لكنّ صرخته سرعان ما تردّدت في أرجاء المملكة حتّى وصلت أسماع الملك، فهبّ من رقاده مرتعداً، وطلب من رئيس الشرطة أن يتحقّق من مصدر الصوت، فتتبّع رجاله الأشدّاء صداه حتّى وصلوا بيت الوليد في غمضة عين، وأخذوه عنوةً من أحضان أمّه الثكلى، وزجّوه خلف القضبان، لكنّ كلمة ( الحريّة ) ظلّت تتردّد في الآفاق، وتملأ قلب الملك هلعاً وخوفاً..
تعليقات: (0)