القائمة الرئيسية

الصفحات

بين الحقيقة والخيال

حدقت في المرآة. فهالني ما رأيت. لقد تحولت من إنسان إلى قرد. دهشت لما حدث للوهلة الأولى، ولكني عدت فأنكرت ما رأته عيناي. وقلت لعله حلم أو كابوس. لعله الوهم مرضي وقد عاودني مرة أخرى. قال لي الدكتور:

- إن كل الاحتمالات ممكنة. قد يتطور مرضك تطوراً خطيراً وقد تشفى منه تماماً وإلى الأبد.

ماذا حدث؟ هل تطور المرض؟ أم لعلي شفيت إلى الأبد! تناثرت الأسئلة والاستفهامات في دماغي كما يتناثر الزبد على فم مريض يحتضر. أو كما يتجمع الذباب على كومة من الزبالة حدقت مرة أخرى في المرآة غير مصدق. تغير شكل جمجمتي. تغير أنفي وفمي. برزت أسناني أكثر وتناثر الشعر من رأسي حتى أخمص قدمي.

راعني ما حدث. حرت قليلاً ما عساي فاعل. قلت سأهرب من هذا الكون الكابوسي الفظيع سوف أنتزع نفسي من نفسي. سأخرج من جلدي. ثارت في داخلي الشكوى وصرخت:

- هذا كذب. لن أصدق الحواس بعد الآن. العقل أحكم. والروح توحي بأني إنسان، وإنسان حقيقي وكامل، والتاريخ والذكريات والتفكير واللغة.. الخ.

لم أعد أدري ما أفعل. فخرجت إلى الشارع لا ألوي على شيء، وطفقت أركض في الطرقات والأزقة والحارات.

بغتة تجمع الناس حولي. طوقوني. ثم أمسكني بعض الرجال بقوة كيما يتمكنوا من السيطرة عليّ وإخماد مقاومتي العنيدة. تعالى الصياح والهتاف. وكثر اللغط وهاج الناس وصاحوا:

- قرد... قرد.

قلت كلا، ولكن صرختي كانت مكتومة. كنت كمن يزدرد الكلمات. ولكن إحساسي بالغربة بلغ ذروته.

تقدم شرطي رزين نحوي. أزاح الناس من حولي. ثم قال برصانة:

- اهدؤوا. اهدؤوا. ماذا يحدث هنا؟

قال أحد العامة:

- امسكنا قرداً يركض في الشارع

حدق الشرطي نحوي مستفهماً. فصحت:

- هذا كذب. لست قرداً. إنما أنا إنسان

قال:

- ما اسمك إذاً؟

حرت لحظة. ترددت في الإجابة. حشدت طاقات فكري وعقلي علّي أتذكر. ثم تمتمت:

- من الجائز أن المفاجأة شلت تفكيري وذاكرتي وعقلي. انتظر لحظة. سوف أتذكره في الحال.

آه... لم أعد أتذكر لعله -س-

قال الشرطي مستنكراً:

- هذا غريب. الناس يقولون أنك قرد وأنت تدعي أنك إنسان. أين الحقيقة؟.

قلت بنبرة فيها توسل ورجاء:

- وأنت؟!... ماذا ترى؟!..

قال وقد أمسك بذراعي:

- أنا ليس لي رأي. هناك رئيس يكبرني. فلنذهب إليه وهو من سيقرر حقيقة أمرك.

وهكذا اقتادني الشرطي إلى المخفر. ولحقت الجماهير الغفيرة بنا. وقف الجميع ينتظرون في الخارج على حين دلفنا نحن نحو الداخل.

كان الضابط الأكبر رجلاً مهيب الطلعة. قال بعد أن استمع إلى الحكاية:

- نحن في بلد ديمقراطي. وقد أجمع الناس على كلمة هي الفصل في رأيي. ولكننا سنلجأ مع ذلك إلى جهات أخرى لنحصل على تقرير نهائي حول وضعك.

تحول الكون إلى رمادي اللون. هذا مثير للسخرية. إنهم يحاولون حشري في موقف غريب. تهاوى قلبي بين قدميّ. وضاقت الفجوة بين الحقيقة والخيال. ونكّست كل بيارقي.

خيم ليل بهيم على روحي. العقل سائب في صحراء قاحلة وموحشة. والروح أسيرة الحيرة والدهشة والتردد. قلت سأقاوم حتى النهاية. لن أتخلى عن إنسانيتي.

عقّدت كلمات الضابط الموقف. وشعرت بأن لساني بدأ يتلعثم. وأن الكلمات تخرج من فمي نكداً. قلت نباتي طيب وبذرتي صالحة. كيف تبدل هذا الكون؟ كيف تغيرت صور الأشياء ومعالم عالمي الذي طالما ألفته؟ لست أدري.. لست أدري.

قالوا الإمام ولي من أولياء الأسرار وهو خير من يقدر هذه الأمور. قال بعد أن تأملني ملياً؛:

- قد يمسخ الله الإنسان الكافر قرداً.

هويت في بئر لا قرارة له. ضاع أملي. خلتني أسير في صحراء مملوءة بالثلج الأسود.

خلت السماء سوداء. البيوت والمدينة والكون. خلت السواد بيرقاً لهذا العالم الغريب. سواد ولا شيء سوى السواد.

صحت بأعلى صوتي:

- إني أنكر كل هذا. وعندي دليل. لتذهب إلى داري وتسأل زوجتي وأولادي وهم سيحدثونكم عني. يبدو أن الدهشة عقدت لساني وأفكاري مبعثرة وروحي حائرة.

وافق الإمام والضابط والشرطي ووافقت الجموع الغفيرة على هذا الاقتراح المثير. قلت قد يضع هذا حداً لهذه المهزلة.

قصدنا داري. قرع الباب. فتح أحد أبنائي وصاح:

- بابا.. بابا.

حدقت فيه فراعني ما أرى. قرد صغير. ثم جاءت زوجتي. سألها الجميع:

- هذا المخلوق ينكر حقيقة أمره ويدعي أنه زوجك وأنه إنسان قالت:

- بل هو قرد. وأنا زوجته. أنا أيضاً من فصيلة القرود. وهؤلاء أبنائي. قرود صغار. حدقت فيها. تغير شكلها كثيراً. إنها تشبه ما رأيت في المرآة هذا الصباح. اسقط في يدي حرت وتهت. تهالكت من التعب ووعثاء المقاومة. كانت المسافة بين الحقيقة والخيال قد بدأت تقصر. وخلت العالم جيشاً من الغزاة يحاصر مدينتي ثم يستبيح أعز ما فيها. خلت سفني بلا صواري تائهة وسط بحر متوحش هائج. فصمت من يأس:

- هذا كذب. أنا إنسان.

ران صمت قصير في أرجاء الوجود. هجم الليل وعصفت الريح. بل اشتد أزيزها حتى تحول إلى صراخ طاغ. كأن الدنيا بركان هائج. وكان القلب ورقة يابسة في مهب العاصفة الروح خائفة ومذعورة. والعقل حيران. خلت الدنيا وقد تحولت إلى سيل يجرف كل شيء.

الأسماء والذكريات والأحلام.

ثم تم عرضي على أطباء ومسؤولين وحتى على مختصين أجانب. فأجمع الجميع على أني قرد. قرد حقيقي وأنتمي إلى هذه الفصيلة. لم يعد ثمة فارق بين الحقيقة والخيال. امتزجا معاً وشكلا أنشوطة التفت حول عنقي وتم شنقي في الساحة العامة على مرأى من كل البشر. الوهم صار حقيقة. والأغنيات تحولت إلى ضوضاء مزعجة. الأحلام تلاشت كدخان السجائر. على حين تحولت الذكريات الجميلة إلى كابوس انضاف إلى جملة الكوابيس التي جعلت تنهش لحمي مثل ذئاب جائعة وضارية. خلت العقل ضحية. وخلت القلب ضحية وخلت الروح ضحية. خلت الأمل ذئباً. وخلت الطريق إلى الحلم ذئباً. وخلت الدنيا مسكونة بالضباع.

تمتمت في سرّي:

- هذا الهم همي. وهذي إرادتي أنا وحدي.

مال رجل من العامة نحوي وهمس في أذني:

- لا تستغرب. نحن جمياً قرود. هكذا مسخنا الله. وأنت وحدك من ينكر ذلك.

قلت:

- قد أكون ...!..

قالوا:

- مضى زمن المعجزات

قلت:

- أريد خمرة تسكر عقلي. فيذهب جفاء كالزبد. أو يتطاير كالهباء.

قالوا:

- الخمرة حرام.

صحت:

- أريد كرامتي

قالوا باسمين:

- كرامتك مصانة. أنت فقط حساس بعض الشيء. إنها مسألة إجراءات شكلية وهذه الأمور تحدث من وقت إلى آخر.

قلت:

- الحرية إذاً.

قالوا:

- القفص هو المكان الطبيعي للقرود. سنجهز واحداً خصيصاً لك. لقد فعلنا ذلك كثيراً قبلك لقرود مثلك ينكرون حالتهم.

وهكذا تم تحضير قفص لي. وعشت فيه بقية عمري قرداً. لكني ما فتئت أتمتم:

- أنا إنسان، وسأظل -ما حييت- أعتقد بذلك

  • فيس بوك
  • بنترست
  • تويتر
  • واتس اب
  • لينكد ان
  • بريد
author-img
sinan

إظهار التعليقات
  • تعليق عادي
  • تعليق متطور
  • عن طريق المحرر بالاسفل يمكنك اضافة تعليق متطور كتعليق بصورة او فيديو يوتيوب او كود او اقتباس فقط قم بادخال الكود او النص للاقتباس او رابط صورة او فيديو يوتيوب ثم اضغط على الزر بالاسفل للتحويل قم بنسخ النتيجة واستخدمها للتعليق